فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (37):

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)}
{وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا} شروع في رد إنكارهم لفروع الشرائع الواردة ابتداء أو بدلًا من الشرائع المنسوخة ببيان الحكمة في ذلك وأن الضمير راجع لما أنزل إليك والإشارة إلى مصدر {أنزلناه} أو {أَنزَلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36] أي مثل ذلك الإنزال البديع الجامع لأصول مجمع عليها وفروع متشعبة إلى موافقة ومخالفة حسا يقتضيه قضية الحكمة أنزلناه حاكمًا يحكم في القضايا والواقعات بالحق ويحكم به كذلك، والتعرض لهذا العنوان مع أن بعض ليس بحكم لتربيته وجوب مراعاته وتحتم المحافظة عليه، والتعرض لكونه عربيًا أي مترجمًا بلسان العرب للإشارة إلى أن ذلك إحدى مواد المخالفة للكتب السابقة مع أن ذلك مقتضى الحكمة إذ بذلك يسهل فهمه وإدراك إعجازه يعني بالنسبة للعرب، وأما بالنسبة إلى غيرهم فلعل الحكمة أن ذلك يكون داعيًا لتعلم العلوم التي يتوقف عليها ما ذكر. ومنهم من اقتصر على اشتمال الإنزال على أصول الديانات المجمع عليها حسا يفيده على رأي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ} [الرعد: 36] إلى آخره، وتعقب بأنه يأباه التعرض لا تباع أهوائهم وحديث المحو والإثبات وإنه لكل أجل كتاب فإن المجمع عليه لا يتصور فيه الاستتباع والاتباع، وقيل: إن الإشارة إلى إنزال الكتب السالفة على الأنبياء عليهم السلام، والمعنى كما أنزلنا الكتب على من قبلك أنزلنا هذا الكتاب عليك لأن قوله تعالى: {والذين ءاتيناهم الكتاب} [الرعد: 36] يتضمن إنزاله تعالى ذلك وهذا الذي أنزلناه بلسان العرب كما أن اكلتب السابقة بلسان من أنزلت عليه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ الله إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] وإلى هذا ذهب الامام. وأبو حيان، وقال ابن عطية: المعنى كما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض أنزلناه حكمًا إلى آخره وليته ما قيل، وإلا بلغ الاحتمال الأول مما أشرنا إليه، ونصب {حُكْمًا} على الحال من منصوب {نزلناه} وإذا أريد به حاكمًا كان هناك مجاز في النسبة كما لا يخفى، ونصب {عَرَبِيًّا} على الحال أيضًا أما من ضمير {أنزلناه} كالحال الأولى فتكون حالا مترادفة أو من المستتر في الأولى فتكون حالًا متداخلة، ويصح أن يكون وصفا لحكما الحال وهو موطئة وهي الاسم الجامد الواقع حالا لوصفه شتق وهو الحال في الحقيقة، والأول أولى لأن {حُكْمًا} مقصود بالحالية هنا والحال الموطئة لا تقصد بالذات.
واختار الطبرسي أن معنى {حُكْمًا} حكمة كما في قوله تعالى: {الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام: 89] وهو أحد أوجه ذكرها الإمام، ونصبه على الحال أيضًا فلا تغفل. واستدلت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بكونه منزلًا وذلك لا يليق إلا بالمحدث. الثاني أنه وصفه بكونه عربيًا والعربي أمر وضعي وما كان كذلك كان محدثًا.
الثالث أنها دلت على أنه إنما كان حكمًا عربيًا لأن الله تعالى جعله كذلك والمجعول محدث. وأجاب الإمام بأن كل ذلك إنما يدل على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه أي بين المعتزلة والإشاعرة وإلا فالحنابلة على ما اشتهر عنهم قائلون بقدم الكلام اللفظي، وقد أسلفنا في المقدمات كلامًا نفيسًا في مسألة الكلام فارجع إليه ولا يهولنك قعاقع المخالفين لسلف الأمة.
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} التي يدعونك إليها كالصلاة إلى بيت المقدس بعد تحويل القبلة إلى الكعبة وكترك الدعوة إلى الإسلام {بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} العظيم الشأن الفائض عليك من ذلك الحكم العربي أو العلم ضمونه {مَا لَكَ مِنَ الله} من جنابه العزيز جل شأنه والالتفات من التكلم إلى الغيبة وإيراد الاسم الجليل لتربية المهابة {مِن وَلِىّ} يلى أمرك وينصرك على من يبغيك الغوائل {وَلاَ وَاقٍ} يقيك من مصارع السوء، وحيث لم يستلزم نفي الناصر على العدو نفي الواقي من نكايته أدخل في المعطوف حرف النفي للتأكيد كقولك: ما لي دينار ولا درهم أو مالك من بأس الله تعالى من ناصر وواق لاتباعك أهواءهم بعدما جاءك من الحق، وأمثال هذه القوارع إنما هي لقطع أطماع الكفرة وتهييج المؤمنين على الثبات في الدين لا للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا يحتاج فيه إلى باعث أو مهيج، ومن هنا قيل: إن الخطاب لغيره صلى الله عليه وسلم، واللام في لئن موطئة و{مِنْ} الثانية مزيدة و{مالك} ساد مسد جوابي الشرط والقسم.

.تفسير الآية رقم (38):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا} كثيرة كائنة {مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} أي نساء وأولادًا كما جعلناها لك، روي عن الكلبي أن اليهود عيرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ولو كان نبيًا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فنزلت ردًا عليهم حيث تضمنت أن التزوج لا ينافي النبوة وأن الجمع بينهما قد وقع في رسل كثيرة قبله.
ذكر أنه كان لسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة مهرية وسبعمائة سرية وأنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة، ولم يتعرض جل شأنه لرد قولهم: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء للإشارة إلى أنه لا يستحق جوابًا لظهور أنه عليه الصلاة والسلام لم يشغله أمر النساء عن شيء ما من أمر النبوة، وفي أدائه صلى الله عليه وسلم للأمرين على أكمل وجه دليل وأي دليل على مزيد كماله ملكية وبشرية. ومما يوضح ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يجوع الأيام حتى يشد على بطنه الشريف الحجر ومع ذا يطوف على جميع نسائه في الليلة الواحدة ولا يمنعه ذاك عن هذا.
وفي تكثير نسائه عليه الصلاة والسلام فوائد جمة، ولو لم يكن فيه سوى الوقوف على استواء سره وعلنه لكفى، وذلك لأن النساء من شأنهم أن لا يحفظن سرًا كيفما كان فلو كان منه عليه الصلاة والسلام في السر ما يخالف العلن لوقفن عليه مع كثرتهن ولو كن قد وقفن لأفشوه عملا قتضى طباع النساء لاسيما الضرائر.
ومن وقف على الآثار وأحاط خبرًا بما روى عن هاتيك النساء الطاهرات علم أنهن لم يتركن شيئًا من أحواله الخفية إلا ذكروه، وناهيك ما روى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في الإيلاج بدون إنزال هل يوجب الغسل أم لا؟ فسألوا عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت ولا حياء في الدين: فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا جميعًا؛ وروي أنهم طعنوا في نبوته بالتزوج وبعدم الاتيان بما يقترحونه من الآيات فنزل ذلك وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي وما صح وما استقام ولم يكن في وسع رسول الله من الرسل الذين من قبل أن يأتي من أرسل إليهم بآية ومعجزة يقترحونها عليه إلا بتيسير الله تعالى ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح التي يدور عليها أمر الكائنات، وقد يراد بالآية الآية الكتابية النازلة بالحكم على وفق مراد المرسل إليهم وهو أوفق بما بعد، وجوز إرادة الأمرين باعتبار عموم المجاز أي الدال مطلقًا أو على استعمال اللفظ في معنييه بناء على جوازه، والالتفات لما تقدم ولتحقيق مضمون الجملة بالإيمان إلى العلة.
{لِكُلّ أَجَلٍ} أي لكل وقت ومدة من الأوقات والمدد {كِتَابٌ} حكم معين يكتب على العباد حسا تقتضيه الحكمة، فإن الشرائع كلها لإصلاح أحوالهم في المبدأ والمعاد، ومن قضية ذلك أن تختلف حسب أحوالهم المتغيرة حسب تغير الأوقات كاختلاف العلاج حسب اختلاف أحوال المرضى بحسب الأوقات، وهذا عند بعض رد لما أنكروه عليه عليه الصلاة والسلام من نسخ بعض الأحكام كما أن ما قبله رد لطعنهم بعدم الإتيان بالمعجزات المقترحة.

.تفسير الآية رقم (39):

{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}
{يَمْحُو الله مَا يَشَاء} أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت {وَيُثَبّتْ} بدله ما فيه الحكمة أو يبقيه على حاله غير منسوخ أو يثبت ما يشاء إثباته مطلقًا أعم منهما ومن الإنشاء ابتداء، وقال عكرمة: يمحو بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل ذلك حسنات كما قال تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالحا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [الفرقان: 70] وقال ابن جبير: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء فلا يغفره، وقال: يمحو ما يشاء ممن حان أجله ويثبت ما يشاء ممن لم يأت أجله، وقال علي كرم الله تعالى وجهه: يمحو ما يشاء من القرون لقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون} [يس: 31] ويثبت ما يشاء منها لقوله سبحانه: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا ءاخَرِينَ} [المؤمنون: 42] وقال الربيع: هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها الله تعالى إليه فمن أراد موته فجأة أمسك روحه فلم يرسلها ومن أراد بقاءه أرسل روحه، بيانه قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] الآية، وعن ابن عباس. والضحاك يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا بسيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت ما هو حسنة أو سيئة، وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضًا من الأناسى وسائر الحيوانات والنباتات والأشجار وصفاتها وأحوالها، وقيل: يمحو الدنيا ويثبت الآخرة، وقال الحسن. وفرقة: ذلك في آجال بني آدم يكتب سبحانه في ليلة القدر، وقيل: في ليلة النصف من شعبان آجال الموتى فيمحو أناسًا من ديوان الأحياء ويثبتهم في ديوان الأموات، وقال السدي: يمحو القمر ويثبت الشمس بيانه قوله تعالى: {فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل وَجَعَلْنَا ءايَةَ النهار مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمحو الله تعالى ما يشاء من أمور عباده ويثبت إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنها لا محو فيها، ورواه عنه مرفوعًا ابن مردويه، وقيل: هو عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ونسب إلى جماعة من الصحابة والتابعين وكانوا يتضرعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداء، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف. وغيره عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع عليه في معيشته يا ذا المن ولا يمن عليه يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول لا إله إلا أنت ظهر اللاجئين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًا فامح عني اسم الشقاوة وأثبتني عندك سعيدًا وإن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محرومًا مقترًا على رزقي فامح حرماني ويسر رزقي وأثبتني عندك سعيدًا موفقًا للخير فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت {يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب}.
وأخرج عبد بن حميد. وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: وهو يطوف بالبيت: اللهم إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنبًا فامحه واجعله سعادة ومغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
وأخرج ابن جرير عن شقيق أبي وائل أنه كان يكثر الدعاء بهذه الدعوات اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء وإن كنت كتبتنا سعداء فاثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
واخرج ابن سعد. وغيره عن الكلبي أنه قال: يمحو الله تعالى من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه فقيل له: من حدثك بهذا؟ فقال: أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأبو حيان يقول: إن صح شيء من ذلك ينبغي تأويله فمن المعلوم أن السعادة والشقاوة والرزق والأجل لا يتغير شيء منها، وإلى التعميم ذهب شيخ الإسلام قال بعد نقل كثير من الأقوال: والأنسب تعميم كل من المحو والإثبات ليشمل الكل ويدخل في ذلك مواد الإنكار دخولًا أوليًا؛ وما أخرجه ابن جرير عن كعب من أنه قال لعمر رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله تعالى لأنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة قال: وما هي؟ قال قوله تعالى: {يَمْحُو الله مَا يَشَاء} الآية يشعر بذلك، وأنت تعلم أن المحو والإثبات إذا كانا بالنسبة إلى ما في أيدي الملائكة ونحوه فلا فرق بين السعادة والشقاوة والرزق والأجل وبين غيرها في أن كلًا يقبل المحو والإثبات، وإن كانا بالنسبة إلى ما في العلم فلا فرق أيضًا بين تلك الأمور وبين غيرها في أن كلًا لا يقبل ذلك لأن العلم إنما تعلق بها على ما هي عليه في نفس الأمر وإلا لكان جهلًا وما في نفس الأمر مما لا يتصور فيه التغير والتبدل، وكيف يتصور تغير زوجية الأربعة مثلًا وانقلابها إلى الفردية مع بقاء الأربعة أربعة هذا مما لا يكون أصلًا ولا أظنك في مرية من ذلك، ولا يأبى هذا عموم الأدلة الدالة على أنه ما شاء الله تعالى كان لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم بالشيء تابع لما عليه الشيء في نفس الأمر فهو سبحانه لا يشاء إلا ما عليه الشيء في نفس الأمر، قيل: ويشير إلى أن ما في العلم لا يتغير قوله سبحانه: {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} بناءً على أن {أُمُّ الكتاب} هو العلم لأن جميع ما يكتب في صحف الملائكة وغيرها لا يقع حيثما يقع إلا موافقًا لما ثبت فيه فهو أم لذلك أي أصل له فكأنه قيل: يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء إثباته مما سطر في الكتب وثابت عنده العلم الأزلي الذي لا يكون شيء إلى على وفق ما فيه، وتفسير {أُمُّ الكتاب} بعلم الله تعالى مما رواه عبد الرزاق.
وابن جرير عن كعب رضي الله تعالى عنه، والمشهور أنها اللوح المحفوظ قالوا: وهو أصل الكتب إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوب فيه كما هو.
والظاهر أن المراد الذاهب والثابت مما يتعلق بالدنيا لا مما يتعلق بها وبالآخرة أيضًا لقيام الدليل العقلي على تناهي الإبعاد مطلقًا والنقلي على تناهي اللوح بخصوصه، فقد جاء أنه من درة بيضاء له دفتان من ياقوت طوله مسيرة خمسمائة عام وامتناع ظرفية المتناهي لغير المتناهي ضروري، ولعل من يقول بعموم الذاهب والثابت يلتزم القول بالإجمال حيث يتعذر التفصيل. وقد ذهب بعضهم إلى تفسير {أُمُّ الكتاب} بما هو المشهور، والتزم القول بأن ما فيه لا يتغير وإنما التغير لما في الكتب غيره، وهذا قائل بعدم تغير ما في العلم لما علمت. ورأيت في نسخة لبعض الأفاضل كانت عندي وفقدت في حادثة بغداد ألفت في هذه المسألة وفيها أنه ما من شيء إلا ويمكن تغييره وتبديله حتى القضاء الأزلي واستدل لذلك بأمور. منها أنه قد صح من دعائه صلى الله عليه وسلم في القنوت: «وقني شر ما قضيت» وفيه طلب الحفظ من شر القضاء الأزلي ولو لم يمكن تغييره ما صح طلب الحفظ منه. ومنها ما صح في حديث التراويح من عذره صلى الله عليه وسلم عن الخروج إليها، وقد اجتمع الناس ينتظرونه لمزيد رغبتهم فيها بقوله: «خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» فإنه لا معنى لهذه الخشية لو كان القضاء الأزلي لا يقبل التغيير، فإنه إن كان قد سبق القضاء بأنها ستفرض فلابد أن تفرض وإن سبق القضاء بأنها لا تفرض فمحال أن تفرض على ذلك الفرض، على أنه قد جاء في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج بعد ما هو ظاهر في سبق القضاء بأنها خمس صلوات مفروضة لا غير فما معنى الخشية بعد العلم بذلك لولا العلم بإمكان التغيير والتبديل. ومنها ما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يضطرب حاله الشريف ليلة الهواء الشديد حتى أنه لا ينام وكان يقول في ذلك: «أخشى أن تقوم الساعة» فإنه لا معنى لهذه الخشية أيضًا مع إخبار الله تعالى أن بين يديها ما لم يوجود إذ ذاك كظهور المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك مما يستدعي تحققه زمانًا طويلًا فلو لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أن القضاء يمكن تغييره وإن ما قضى من أشراطها يمكن تبديله ما خشي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
ومنها أن المبشرين بالجنة كانوا من أشد الناس خوفًا من النار حتى أن منهم من كان يقول: ليت أمي لم تلدني، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: لو نادى مناد كل الناس في الجنة إلا واحدًا لظننت أني ذلك الواحد، وهذا مما لا معنى له مع إخبار الصادق وتبشيره له بالجنة والعلم بأن القضاء لا يتغير. ومنها أنه لولا إمكان التغيير للغا الدعاء إذ المدعو به إما أن يكون قد سبق القضاء بكونه فلابد أن يكون وإلا فمحال أن يكون، وطلب ما لابد أن يكون أو محال أن يكون لغو مع أنه قد ورد الأمر به، والقول بأنه لمجرد إظهار العبودية والافتقار إلى الله تعالى وكفى بذلك فائدة يأباه ظاهر قوله تعالى: {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وأيضًا أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله تعالى يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر، وأخرج ابن مردويه. وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يَمْحُو الله مَا يَشَاء} الآية فقال له عليه الصلاة والسلام: «لأقرن عينك بتفسيرها ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف محول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء» وهذا لا يكاد يعقل على تقدير أن القضاء لا يتغير، وفي الأخبار والآثار مما هو ظاهر في إمكان التغير ما لا يحصى كثرة، ولعل من ذلك الدعاء المار عن ابن مسعود، ثم إن القضاء المعلق يرجع في المآل إلى القضاء المبرم عند مثبته فلا يفيده التعلق بذلك في دفع ما يرد عليه، ودفع ما يرد على القول بالتغير من أنه يلزم منه التغير في ذاته تعالى لما أنه ينجر إلى تغير العلم وهو يوجب التغير في ذاته تعالى من صفة إلى أخرى أو يلزم من ذلك الجهل، وهذا مأخوذ من الشبهة التي ذكرها جمهور الفلاسفة في نفي علم الله تعالى بالجزئيات المتغيرة فإنهم قالوا: إنه تعالى إذا علم مثلًا أن زيدًا في الدار الآن ثم خرج عنها فإما أن يزول ذلك العلم ولا يعلم سبحانه أنه في الدار أو يبقى ذلك العلم بحاله، والأول يوجب التغير في ذاته سبحانه، والثاني يوجب الجهل وكلاهما نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه بما دفعوا به تلك الشبهة، وهو ما ذكر في المواقف وشرحه من منع لزوم التغير فيه تعالى بل التغير إنما هو في الإضافات لأن العلم عندنا إضافة مخصوصة وتعلق بين العالم والمعلوم، أو صفة حقيقية ذات إضافة، فعلى الأول يتغير نفس العلم، وعلى الثاني يتغير إضافاته فقط، وعلى التقديرين لا يلزم تغير في صفة موجودة بل في مفهوم اعتباري وهو جائز.
وأجاب كثير من الأشاعرة والمعتزلة بأن العلم بأن الشيء وجد والعلم بأنه سيوجد واحد فإن من علم أن زيدًا سيدخل البلد غدًا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم بأنه دخل البلد الآن إذا كان علمه هذا مستمرًا بلا غفلة مزيله له؛ وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر متجدد يعلم به أنه دخل الآن لطريان الغفلة عن الأول، والباري تعالي يمتنع عليه الغفلة فكان علمه سبحانه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد فلا يلزم من تغير المعلوم تغير في العلم؛ ونهاية كلامه في هذا المقام أنه يجوز أن يتغير ما في علم الله تعالى وإلا لتعين عليه سبحانه الفعل أو الترك وفيه من الحجر عليه جل جلاله ما لا يخفى، ولا يلزم من ذلك التغير سوى التغير في التعلقات وهو غير ضار، واعترض بأنه على هذا القول لا يبقى وثوق بشيء من الأخبار الغيبية كالحشر والنشر وكذا لا يبقى وثوق بالأخبار بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لجواز أن يكون الله تعالى قد علم ذلك حين أخبر ثم تعلق علمه بخلافه لكنه سبحانه لم يخبر ولا نقص في الإخبار الأول لأنه إخبار عما كان متعلق العلم إذ ذاك، وأيضًا يلزم من ذلك نفي نفس الأمر أو نفي كون تعلق العلم على وفقه وكلا النفيين كما ترى. بقي الجواب عما تمسك به وهو عن بعض ظاهر وعن بعض يحتاج إلى تأمل فتأمل. واستدل بالآية بعض الشيعة القائلين بجواز البداء على الله سبحانه وفيه ما فيه هذا.
ويخطر لي في الآية معنى لم أر من ذكره وهو أن يراد بقوله سبحانه: {يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} ما ذكرناه أولًا قبل حكاية الأقوال وهو مما رواه البيهقي في المدخل. وغيره عن ابن عباس، وابن جرير عن قتادة ويخصص ذلك بالأحكام الفرعية، ويراد بأم الكتاب الأحكام الأصلية فإنها مما لا تقبل النسخ وهي أصل لكل كتاب باعتبار أن الأحكام الفرعية التي فيه إنما تصح ممن أتى بها لكن لا يساعد على هذا المأثور عن السلف. نعم هو مناسب للمقام كما لا يخفى، وزعم الضحاك. والفراء أن في الآية قلبًا والأصل لكل كتاب أجل. وتعقب بأنه لا يجوز ادعاء القلب إلا في ضرورة الشعر على أنه لا داعي إليه هنا بل قد يدعي فساد المعنى عليه؛ وأيًا ما كان فأل في الكتاب للجنس فهو شامل للكثير، ولهذا فره غير واحد بالجمع. وقرأ نافع. وابن عامر {وَيُثَبّتْ} بالتشديد.